نقض أصول ثوابت المرتعة في ضوء عقيدة أهل السنة - للشيخ د. صلاح الخلاقي

نقض أصول ثوابت المرتعة في ضوء عقيدة أهل السنة

الحمد لله المتصف بنعوت الجلال وصفات الكمال، المستحق وحده للعبودية والإجلال، ربنا ورب كل شيء سبحانه الكبير المتعال، وصلى الله وسلم على صفوة خلقه وخيرة أنبيائه ورسله، وعلى آله وصحبه ومن سلك مسلكه واتبع هداه إلى يوم الدين، وبعد:
فقد طالعتنا الشبكة العنكبوتية بمقالة موسومة: (ثوابت المرتعة العلمية)، [ادعى كاتبها أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم في أصولهم: ثم سرد أصولهم على جهة التفصيل]، وهذه جرأة كبيرة وتجنٍ فضيع على الأمة وأئمة السنة السابقين واللاحقين، تفضي لتضليل كل من لم يسلك مسلكهم في التصوف البدعي، ولم يعتقد معتقدهم الكلامي، وقد اشتملت ثوابتهم على الدعوة لأمرين: التصوف وعلم الكلام، وهاتان بوابتان لكل ضلالة حلت بالأمة، كما جمعت ثوابتهم بين ثلاث جيمات: جيم (الجهم) التي تفيد التعطيل، وجيم (الجبر) التي غلفوها بالكسب، وجيم (الإرجاء) التي تفيد إخراج عمل الجوارح من الإيمان، وهي عقائد فاسدة انطلت على بعض المبتدئين الذين اغتروا بحجة دراسة النحو والفقه الشافعي في هذه المرتعة، والواقع أنها تستوجب الحذر والتحذير والرد على وجه البسط، ولكن طلباً للإيجاز أُنبه إلى أن معتقد هذه المرتعة قام على ثلاثة أصول فاسدة، أوجزها فيما يلي:


الأصل الأول: تعطيل حقائق الغيبيات في باب الصفات
وتوضيح التعطيل ونقضه في الأمور التالية:

أولاً: أن منشأ المعتقد الذي قامت عليه المرتعة هو تعطيل الرب تعالى عما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات العلى، وهذا أصل جهم بن صفوان المؤسس لفرقة الجهمية، وقد أنتجت مقالته إنكار كثير من الأمور الغيبية، أو التشكيك في إثباتها، أو الاضطراب في توضيح الحق فيها.
ثانياً: أن الواجب تجاه ما جاءت به الرسل من الأمور الغيبية كأسماء الله وصفاته، وحوادث اليوم الآخر، أمور:
1.    إثباتها كما أخبر الله ورسوله، والإقرار بالمعاني المفهومة منها بلا إنكار ولا تشكيك.
2.    قطع الطمع عن إدراك حقائقها وكيفيتها في الدنيا.
3.    الإيمان بتحقق وقوع الحس عليها في الآخرة، -متى ما شاء الله-؛ فتسميتها غيباً ليس أمراً يعود إلى ذات الأمر المغيب نفسه، وإنما يعود إلى غياب عينه عن الحس في الدنيا.  
ثالثاً: أن خبر الله ورسوله عن المغيبات يبين المعنى العام الذي يحصله الذهن، وهو الحقائق اللغوية مجردة عن الإضافة، وهذا هو القدر المشترك الذي يُتحصل بأفراد المشاهدات، فنؤمن ونصدق بهذا المعنى العام، وإن غاب عنا حقيقة كنهه في الخارج، بخلاف المعنى الذي يحصل بالإضافة لمعين؛ ويتضح به القدر المميز والتفاوت الواضح بين تلك الحقائق.


الأصل الثاني: الاعتماد على النفي
إن المتأمل في هذا المعتقد يجد أنه قائم على وصف الرب تعالى بصفات منفية (سلبية)، وهذا من أصول ضلال منهجهم في باب الأسماء والصفات، ولذلك يوغلون في ذكر عبارات تستبشع النفوس السليمة من التلفظ بها، وهذا مسلك فاسد من وجوه:
أولاً: أن باب الأسماء والصفات باب إثبات: مدح وكمال، والنفي المحض في ذاته لا يدل على إثبات، فليس فيه مدح ولا كمال، لأمرين: لكون النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحاً. ولكون النفي إنما يوصف به المعدوم والممتنع والمستحيل، وهذه أشياء لا توصف بمدح ولا كمال.
ثانياً: أن النفي فرع عن الإثبات من وجهين:
1.    فرع في وجوده: فالأصل في باب الوجود هو الإثبات، وهو مقصود لذاته، لبيان وتقرير حقيقة الذات الموجودة.
2.    فرع في فائدته: فبالنفي يعرف حد الإثبات وضابطه، وبه يحمى الإثبات مما قد يشوبه؛ لأن النفي عدم والعدم لا شيء، فلا يعلم مجرداً، فإذا عرفت الموجود عرفت ما ينفى عنه، وبهذا يكون النفي فرع عن الإثبات.  فالخلاصة أن باب الصفات باب إثبات، لا باب نفي وسلب.
ثالثاً: إذا تقرر ذلك ففساد ما أحدثوه من تفسيرات للنصوص يؤول إلى التعطيل؛ فـنفي الحدوث ونفي الانقسام والتعدد والتكثر، وغيرها من الصفات والتفسيرات التي يوردونها، يؤول إلى اعتقاد أن الرب –تعالى عما يقولون- مجرد حقيقة ذهنية لا يمكن أن يتصف بوصف، ولا يصدر منه كلام ولا فعل، وكل
هذا بحجة مخالفة الحوادث، والواجب نفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد كمال الضد.


الأصل الثالث: الاعتماد على الألفاظ المجملة
المتأمل في المعتقد الذي قامت عليه ثوابت المرتعة وجميع المتكلمين يجده قائم على ألفاظٍ دخيلة لم ترد في الكتاب والسنة، وهي ألفاظ مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، وهذا مسلك فاسد من وجوه:
أولاً: أن ما حملهم عليه إلا البعد عن النصوص ودلالات لغة القرآن، والتأثر بعلم الكلام ودلالات منطق فلاسفة اليونان، كما حملهم قصد التعمية والتلبيس والتدليس على الجهال، والتعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم، والحيرة والشك التي تنتاب عقيدتهم في ذات الرب تعالى على وجه الخصوص.
ثانياً: أن الاعتماد على الألفاظ المجملة يفضي إلى التعطيل، فقولهم: (الله ليس بجسم)، لفظ مجمل قام عليه توحيد المتكلمين، وهو يحتمل نفي اتصاف الرب بما هو من خصائص مخلوقاته وهذا حق، ويحتمل نفي الصفات عنه سبحانه، ما يؤول إلى نفي ذات الرب المتصفة بالكمال المطلق وهذا الذي يرومونه، ويقوم عليه تعطيلهم.
ثالثاً: أن الألفاظ المجملة لا يتوصل بها إلى يقين؛ إذ فيها شائبة حق، وشائبة باطل، والواجب التوقف في اللفظ المجمل، والاستفصال عن المعنى حتى يزول الاحتمال، ويتميز الحق من الضلال، فيقبل المعنى الصواب ويرد ما فيه من بطلان.
والمقصود من هذا العرض الحذر من تلك الأصول المحدثة المخالفة لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، قال العلامة محمد أمان رحمه الله –ضمن مقالة (التصوف من صور الجاهلية): "قد شوهت هذه الطائفة (الصوفية) جمال الدين، وغيرت مفاهيم كثيرة من تعاليم الإسلام لدى كثير من المخدوعين الذين يحسنون الظن بكل ذي عمامة مكورة، وسجادة مزخرفة، وسبحة طويلة، ويستسمنون كل ذي ورم، فأخذوا يحاولون أن يفهموا الإسلام بمفهوم صوفي بعيد عن الإسلام الحق الذي كان عليه المسلمون الأولون قبل بدعة التصوف وبدعة علم الكلام وغيرهما من البدع التي شوشت على السذج، وحالت بينهم وبين المفهوم الصحيح للإسلام" ا.هـ، فــ «اتقوا الله يا معشر الشباب، وانظروا عمن تأخذون دينكم»، فإنه إن هانت عليكم عقيدتكم، فما الذي يعز عليكم؟! قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس: «إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تسأل يوم القيامة، فانظر عمن تأخذه».

 

 

كتبه
د. صلاح محمد موسى الخلاقي
2/رجب/ 1440 هــ   9/3/2019م