ما لهم وللجامي؟! - للشيخ د. صلاح الخلاقي

بسم الله الرحمن الرحيم

((ما لهم وللجامي؟!))

 

إن مما يؤسف له نشوء الجماعات الدعوية الدخيلة على منهج السلف وعلى كثير من البلدان الإسلامية، والدعوات المسمومة التي اغتر بها كثير من الشباب؛ فانبهروا ببهرجهم المزعوم بالغيرة على تحكيم الشريعة، والإنكار على الحاكم علانية ونحوها من المسائل التي يدغدغون بها المشاعر، ويهدمون بها الشعائر، وقد أدرك المصلحون ذلك الخطر، وأن مقصدهم حرمان الناس من الأمن والأمان في دينهم ودنياهم، وتكوين تكتلات حزبية تشتت الصف وتفرق جماعة المسلمين، كما يذوق مرارة تلك الأعمال بعض إخواننا في كثير من البلدان التي حصلت فيها الثورات في هذه الأيام.

ومن أوائل العلماء الناصحين الذين تفطنوا لذلك الخطر: فضيلة الشيخ العلامة محمد أمان الجامي -رحمه الله-، وفضيلة الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-؛ فإن لهما سبراً خاصاً بالدعوات الفاسدة، وأخص هذين العالمين بالذكر؛ لكثرة ما لاقوه من الأذى، وشدة ما عانوه بسبب جهادهم أولئك الدخلاء من البلاء، ولم يُثنهم ذلك عن الثبات على الحق الذي يدعون إليه، فجزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، فمنذ الثمانينات كما قال فضيلة شيخنا د. صالح السحيمي -حفظه الله- وأصحاب النحل الخارجية الثورية يبذلون قصارى جهدهم في إبعاد الناس عن علمائهم بدعاوى كثيرة، منها: أنهم لا يفقهون الواقع، ومنها: أنهم لا يعرفون إلا أحكام الحيض والنفاس، ومنها: أنهم عملاء للسلاطين... إلى أن قال: لولا أن قيض الله لنا علماءنا وفقهم الله فكانوا سبباً بعد فضل الله عز وجل في حمايتنا من هذا الفكر الدخيل ا.هـ([1]).

ولأجل هذا الجهاد من علمائنا الأجلاء قامت الحرب الضروس تجاههم من قِبَل بعض المغرضين؛ فقاموا يكيلون التهم، ويشيعون الأراجيف؛ ليحيلوا بين الناس وبين علمائهم، بل قلبوا ظهر المجن، بطرح الافتراءات والأكاذيب، وكيل التهم والتهاويل التي طالما تناقلها أقوام دون تحرٍ ولا تثبت في مبناها، بل دون عقل وفهم لمعناها.

والمقصود أن ما لحق هذين الشيخين من الأذى وهكذا علماء المسلمين، هو بسبب تلك الشجاعة التي كانت تهاجم المتهجمين على ثوابت العقيدة السلفية، وبسبب ما أراد الله لهم من الرفعة والأجر حتى بعد موتهم، كما جاء عن جابر رضي الله عنه قال: (قيل لعائشة إن أناساً يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل، فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر)([1]).

ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)([2]).

لن أتعرض لتلك الافتراءات التي ينكرها العقلاء، فقد انكشف الغطاء عن كثير من تلك الدعوات السرية المستوردة، بما ابتلى الله سبحانه وتعالى بلدان المسلمين من فتن وأحداث، أدرك بسببها الكثير صحةَ ما دعا إليه المشايخ والعلماء –ممن يُنبزونهم بالجامية- خطر تلك الدعوات.

ولكن لابد من الوقوف مع لقب (الجامية) الذي أطلقه أولئك الخصوم، وتلقفه كثير من الجهال، وابتلعه كثير ممن ينتسب للعلم، ولولا ذلك لما تعرضت إليه؛ فإن مؤلفات الشيخ محمد أمان الجامي ومحاضراته وشروحه وكذا العلامة ربيع، كفيلة بالنطق لتفصح عن عقيدتهم ومنهجهم السلفي النقي من شوائب الحزبية.

 

الوقفة الأولى: الغاية من النبز بالجامية:

إن الغاية التي يريدون التوصل إليها بالنبز بالجامية: التنفير والتفريق بين المسلمين، والترويج لأفكارهم الثورية، والتهوين من خطر أفكارهم التي ضللوا بها الكثير، قال فضيلة العلامة المحدث عبد المحسن العباد -حفظه الله- في معرض رده على صحفي، حيث قال: «ينبز بعض المناوئين لأهل السنة بعض أهل السنة بأنهم (جامية)، ومن النابزين بذلك أسامة بن لادن عندما كان في السودان قبل ذهابه منها إلى حركة طالبان بأفغانستان، وهذا النبز بـ(الجامية) لبعض أهل السنة نظير نبز المناوئين لأهل السنة دعوةَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب بـ(الوهابية) تنفيراً منها، والذي عُرف بنسبة (الجامي) هو الشيخ محمد أمان الجامي -رحمه الله- الذي توفي قبل خمسة عشر عاماً تقريباً، وكان له جهود طيبة في بيان عقيدة أهل السنة والدفاع عنها، وهذا الصحفي من النابزين بذلك»([3])، ثم أورد وفقه الله المثل الذي ضربه الشيخ محمد أمان لتلك الجماعات التي همها، تجميع الناس دون تصفية أو تربية.

 

الوقفة الثانية: منشأ نبز الدعوة السلفية بالجامية:

منشأ نبز دعوة الشيخ محمد أمان الجامي وإخوانه من علماء المدينة بـ(الجامية) من طائفتين:

الطائفة الأولى: من كان مخالفاً لمنهج السلف، وخصوصاً فيما يتعلق في باب الإمامة ومعاملة الحكام، كمحمد سرور وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن، ومن سار على شاكلتهم، وغرض هذه الطائفة استهداف كبار العلماء، والحيلولة بينهم وبين الشباب، حتى تسلم لهم فريستهم، ولكنهم أدركوا عدم متابعة الناس لهم في الطعن في العلامة ابن باز وغيره من هيئة كبار العلماء؛ لِما جعل الله لهم من المهابة والإجلال في نفوس العامة قبل الخاصة، فلجئوا بقصر هذا النبز على الشيخ محمد أمان وإخوانه من علماء المدينة، وهذا يُذَكِّرنا بما رواه اللالكائي عن عبدالله بن أبي مريم قال: قيل لمحمد بن يوسف الفريابي: (ما تقول في أبي بكر وعمر؟

قال: قد فضلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرني رجل من قريش أن بعض الخلفاء أخذ رجلين من الرافضة فقال لهما: والله لئن لم تخبراني بالذي يحملكما على تنقص أبي بكر وعمر لأقتلنكما. فأبيا، فقدم أحدهما فضرب عنقه.

ثم قال للآخر: والله لئن لم تخبرني لألحقنك بصاحبك،  قال: فتؤمِّني؟ قال له: نعم.

قال: فإنا أردنا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: لا يتابعنا الناس عليه، فقصدنا قصد هذين الرجلين، فتابعنا الناس على ذلك)([4]).

ولذلك تغيرت فكرة النبز بـ(الجامية) عن بدايتها، فصار النبز خاصاً بعلماء المدينة، وقد ساعد هذا التخصيص تهجم شيوخ الصحوة الذين فسروا بيان -سماحة الوالد عبد العزيز بن باز رحمه الله المتضمن دعوة الجميع إلى النقد البناء دون تعرض لأهل العلم([5])- بأن المقصود علماء المدينة، وقد أفصح العلامة ابن باز رحمه الله عن مقصوده، فقال: «الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه، أما بعد:

فالبيان الذي صدر منَّا المقصود منه دعوة الجميع، جميع الدعاة والعلماء إلى النقد البنَّاء وعدم التعرض للتجريح لإخوانهم الدعاة. 

وليس المقصود إخواننا في المدينة من طلبة العلم والمدرّسين والدعاة، وليس المقصود غيرهم في مكة أو الرياض أو في جُدة، وإنما المقصود العموم، وإخواننا المشايخ المعروفون في المدينة ليس عندنا فيهم شك، هم أهل العقيدة الطيبة ومن أهل السنّة والجماعة مثل الشيخ محمد أمان بن علي، ومثل الشيخ ربيع بن هادي، ومثل الشيخ صالح بن سعد السحيمي، ومثل الشيخ فالح بن نافع، ومثل الشيخ محمد بن هادي، كلهم معروفون لدينا بالاستقامة والعلم والعقيدة الطيبة نسأل الله لهم المزيد من كل خير وفضل والتوفيق لما يرضيه.

ولكن دعاة الباطل وأهل الصيد في الماء العكر هم الذين يشوشون على الناس، ويتكلمون في هذه الأشياء ويقولون: المراد كذا والمراد كذا، وهذا ليس بجيد، الواجب حمل الكلام على أحسن المحامل، وأن المقصود التعاون على البر والتقوى، وصفاء القلوب، والحذر من الغيبة التي تسبب الشحناء والعداوة، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية"([6]).

ويتضح بذلك أن الله سبحانه قد عامل أولئك النابزين للجامية بنقيض قصدهم، فلما قصدوا بذلك النبز ذم بعض العلماء والتحريش فيما بينهم، صار ذلك سبباً في إشادة علماء العصر بهم، وحثهم عليهم.

الطائفة الثانية: قوم غلبهم الحسد وبغض الشيخ محمد أمان وبقية إخوانه السلفيين؛ لما تمتعوا به من قوة وشجاعة في إظهار الحق والرد على المخالفين فيه، يؤكد هذا جواب معالي الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله عن سؤال قال صاحبه: هناك فرقة قد خرجت اسمها (الجامية) حتى أطلقوها عليك، فما أدري من أين أتوا بهذا الاسم؟ ولماذا يطلقونها على بعض الناس؟ 

فأجاب الشيخ حفظه الله بقوله: «هذا من باب، يعني من باب الحسد أو البغضاء فيما بين بعض الناس، ما فيه فرقة جامية، ما فيه فرقة جامية، الشيخ محمد أمان الجامي : نعرفه من أهل السنة والجماعة، ويدعوا إلى الله عز وجل، ما جاء ببدعة ولا جاء بشيء جديد، ولكن حملهم بغضهم لهذا الرجل أنهم وضعوا اسمه وقالوا فرقة جامية، مثل ما قالوا (الوهابية)، الشيخ محمد بن عبد الوهاب لما دعا إلى التوحيد، إخلاص العبادة لله سموا دعوته بـ(الوهابية)، هذه عادة أهل الشر، إذا أرادوا مثل ما قلنا لكم ينشرون عن أهل الخير بالألقاب، وهي ألقاب ولله الحمد ما فيها سوء، ما فيها سوء ولله الحمد، ولا قالوا بدعاً من القول، ما هو بس محمد أمان الجامي اللي ناله ما ناله، نال الدعاة من قبل، من هم أكبر منه شأن، وأجل منه علم، نالوهم بالأذى، الحاصل إننا ما نعرف على هذا الرجل إلا الخير، والله ما عرفنا عنه إلا الخير، ولكن الحقد هو الذي يحمل بعض الناس، وكلٌ سيتحمل ما يقول يوم القيامة، والرجل أفضى إلى ربه، والواجب أن الإنسان يمسك لسانه ما يتكلم بالكلام البذيء، والكلام في حق الأموات وحق الدعاة إلى الله وحق العلماء؛ لأنه سيحاسب عما يقول يوم القيامة، ما يحمله الاندفاع والهوى إلى أنه تكلم في الناس، يجرح له العلماء إلا بخطأ بين واضح، أنا أقول الآن هؤلاء عليهم إنهم يجيبون لنا الأخطاء التي أخطأ فيها هذا الرجل، إذا جاءوا بها ناقشناها وقبلنا ما فيها من حق ورددنا ما فيها من باطل، أما مجرد اتهامات!!

وأقول: هذا ما هو من شأن أهل الحق»([7]).

 

الوقفة الثالثة: ماذا ينقمون من الجامية؟

يكاد المطلع على النابزين لأهل السنة والجماعة بالجامية، الجزم بأنهم ما نقموا منهم إلا أنهم على منهج السلف سائرون، وعن الدين مناصرون، وللسنة ناشرون، وعن العلماء الأكابر ذابون، وللجماعة داعون، وعن الفرقة محذرون، وعلى المخالفات والبدع رادون، وللشباب موجهون، وعلى الجد والاجتهاد في طلب العلم الشرعي سالكون.

ولذلك صار هذا النبز سمة للمتبعين لمنهج السلف الصالح ممن يحذر من الخروج على ولاة الأمور، وينهى عن شق عصا الطاعة، ويدعو إلى توقير العلماء، وعدم التقدم بين أيديهم، وينشر فتاواهم ومؤلفاتهم في الردود التي تكشف عن أخطاء الجماعات أو أخطاء الدعاة التي تمس العقيدة، أو تمس منهج الدعوة إلى الله تعالى، ويحذر من الفكر التكفيري ورموزه، وسمة لمن يحذر الشباب من الانخراط في الفتن التي لبست بلباس الجهاد، وليست من الجهاد في شيء، بل صارت سمة على من يحرص على التوحيد دعوة وبياناً، ويحرص على بيان الشرك تنبيهاً وتحذيراً، ويعتني بنشر العلم الشرعي وبيان البدع حسب استطاعته.

فإذا سلكت أيها السلفي الجادة في عقيدتك، ووصلت إلى درجة اليقين، فينبغي أن لا تتأثر بالأقاوايل والتهم والألقاب المنفرة، مهما كانت مستبشعة، بل اثبت على يقينك حتى يأتيك اليقين، وقد فتح لك الإمام الشافعي : ذلك الباب، فقال:

إن كان رفضا حب آل محمد ** فليشهد الثقـلان أني رافضي([8])

ورحم الله شيخ الإسلام إذ قال:

فإن كان نصباً ولاء الصحاب ** فإني كما زعموا ناصــبي

وإن كان رفضاً ولاء الجميع ** فلا برح الرفض من جانبي([9])

وتبعهما ابن القيم : فقال:

فإن كان تجسيما ثبوت استوائه ** علـى عرشه إني إذاً لمجسمُ

وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاته ** فمن ذلك التشبيه لا أتكتم([10])

وعلى هذا الدرب سلك من بعدهم، قال ملا عمران رحمه الله:

إن كان تابع أحمد متوهباً ** فأنا المقر بأنني وهابــي([11])

وقال العلامة تقي الدين الهلالي:

نسبوا إلى الوهاب خير عباده ** يا حبذا نسبي إلى الوهاب([12])

ولك أن تقول:

فإن كان جامياً سلوك طريقهم ** فمن قولك الجامي لا أتنصل

وهذا كله مأخوذ من قول الأول:

وعيرني الواشون أني أحبها ** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها([13])

وقول الآخر:

فإن كان ذنبي حبكم وولاءكم ** فإني مصر ما بقيت على الذنب


 

   وبهذا القدر كفاية والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

                                   كتبه

                                   د. صلاح محمد موسى الخلاقي

                                       1/رجب/ 1436هــ

 


 

([1]) من جواب لسؤال وجه للشيخ بعد درس فجر يوم الإثنين 23/5/1427هـ، في دورة حفر الباطن، وقد تم تفريغه ونشره في شبكة سحاب http://www.sahab.net/.

([1]) رواه رزين كما في جامع الأصول لابن الأثير (6366) وانظر: تاريخ بغداد 11/276، وعزاه شيخ الإسلام في منهاج السنة 2/22 لمسلم ولم أجده.

([2]) رواه مسلم (6579).

([4]) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/1544 (2812).

([5]) صدر هذا البيان بتاريخ 28/7/1412هـ.

([6]) من شريط بعنوان: (توضيح البيان).

([7]) جواب على سؤال وجه للشيخ بعد شرحه لنونية ابن القيم.

([8]) انظر ديوان الشافعي صـ117.

([9]) انظر: درء التعارض (1/240)، وقد نسبه ابن القيم لشيخه انظر: الصواعق المرسلة (3/941).

([10]) انظر: الصواعق المرسلة (3/941)، ومقدمة النونية شرح ابن عيسى (1/29).

([11]) انظر: مجموعة الهدية السنة صـ110.

([12]) انظر: القصيدة البائية في موقع الشيخ تقي الدين الهلالي: http://www.alhilali.net

([13]) انظر: شرح أشعار الهذليين 1/70 من قول أبي ذؤيب الهذلي.