إلى مصاب بالوسوسة د. صلاح بن محمد الخلاقي

سلسلة رسائل دعوية (15)

إلى مصاب بالوسوسة

الوسوسة تبدأ كسائر الخواطر التي تعتري جميع الناس، وهي من الأبواب الضعيفة التي جُبلت عليها خِلْقةُ بني آدم، ولكن الإنسان إذا تمادى بها صارت بلاءًا عظيماً، وولدت شراً مستطيراً، فتبدأ في مجال الطهارة مثلاً ثم لا تلبث حتى تستحكم على جميع تصرفات العبد، وإن كانت في أصلها تدل على صدق العبد، وسلامة قلبه؛ فالشيطان لم يجد لصاحبها سبيلاً لانحرافه عن الجادة، فدخل عليه من أضعف الأبواب: (الوسوسة)، فإن أغلق العبد هذا الباب ووُجِد منه البغض له ومدافعته ظهر صريح إيمانِه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: (وقد وجدتموه؟) قالوا: نعم، قال: (ذاك ‌صريح ‌الإيمان) رواه مسلم.

ولما كانت الوسوسة تعظم بعدم الإعراض عنها، صارت للأسف تُردي بكثير من الناس إلى مهاوٍ لا تليق بهم، فتُفسد أفكارَهم، وتؤدي إلى الحَيرة والاضطراب، والاكتئاب والقلق، وتحريض النفس على تكليفها بأعمال خارجة عن المألوف شرعاً وواقعاً، ولا يزال يتطور هذا المرض حتى يعجز الشخص عن مقاومته، ويولِّد نكد العيش، وضيق الحال، وانعدام الاستقرار النفسي والأمن الداخلي، وينقلب الحال إلى صراعات داخلية، ولأجل ذلك كله فإني أبعث إليك يا مَن أُصبت بهذا البلاء بجملة من الوصايا والتنبيهات، أرجو الله أن يستأصل بها مرضك، ويشرح بها صدرك، وأن تكون عوناً لك على التخلص من هذا البلاء، فأقول وبالله التوفيق:

أولاً: اعلم أن منبع الوسوسة الذي نشأ عنه هذا المرض، ومنه يستمد استمراريته هو اضطراب النفس، وشكوك القلب، وتردد الصدر من غير موجب ولا مقتضى، وتظهر آثار ذلك بتكرار التفكر فيه، ولا يزال الشيطان يتعاهد هذه الفكرة حتى يتم معها تعطيل ما يخطر بالبال، أو تكرار ما يفكر به تكراراً يُخرِج عن حد العرف والصحة والشرع، فطَهِّر قلبك فإنه محل عبودية الله، ولا تكن ممن قال الله فيهم: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً)، قال ابن عباس: في قلوبهم شك.

ثانياً: احذر أن تكون من الشخصيات الجانحة للخوف والتوجس والريبة، فإنها مرتع خصب لحبال الوساوس الشيطانية، واسْعَ في تهذيب سلوكياتِك، وتغيير نمط تعاملك بالخلطة بالآخرين، والاستفادة من سلوكياتهم الحميدة، فالأحوال المحيطة بالموسوس تولد عنده سرعة الغضب، وقلة الصبر، وسوء الظن، والعبوس الدائم وغير ذلك من الخصال الرديئة.

ثالثاً: إن من أسباب الوسوسة ضعف الصلة بالله تعالى: ما يولد ضنكاً في القلب، وفراغاً كبيراً، وشكوكاً في النفس، والشيطان حريص على الوصول إلى تحقيق هذا المقصد، وله أساليب من أخطرها الغلو في التعبد؛ بغيةَ أن يُفقدَك حلاوة العبادة، أو تثقيلها عليك، ومن أساليبه: الإرشاد إلى المكث الطويل في دورات المياه بغية التنظف، أو تغيير الملابس لكل صلاة، أو التكلف والتقعر في القراءة، أو تكرار تكبيرة الإحرام، إلى غير ذلك من التصرفات التي يوهم بها الشيطانُ الحرصَ على أداء العبادة على غاية من الصحة، ومقصده أن يُبغِّضك في الصلاة؛ لكونه شدد على نفسك ووضعها في موضع الاستهزاء والسخرية.

رابعاً: إن الخوض فيما نُهينا عن الخوض فيه من التفكير في أمور الغيبيات، أو الاسترسال فيما يعرض لك من تردد في عدد غسلات الوضوء أو ركعات الصلاة، أو أشواط الطواف، أو تتبع العادات القبيحة غير المألوفة: كعدم التنزه من البول، والبول في محل الاستحمام، والمبالغة في الاستنجاء، أو فتح باب الظنون السيئة في باب العشرة الزوجية، أو عدم اعتبار طهارة الآنية وحل الأطعمة والمشروبات المباحة وغير ذلك، كل ذلك يجلب لك الوساوس والأوهام والشكوك، والاعتزال وعدم الخلطة.   

خامساً: اعرف عدوك: النفس والشيطان فهما أصل كل شر، وعليهما تقوم ساق الوسوسة، ووسوسة النفس بإصرارها على خبيئة فاسدة لا تكاد تفتر عن تحقيقها، ولذلك قد تطغى النفس فلا تتأثر حتى بالزواجر، بخلاف وسوسة الشيطان الذي ينخنس بذكر الله، ولا يهمه سوى وقوع العبد في شباكه بالعصيان، فإن فشل في جانب دخل من جانب آخر، ومن عرف مكمن الداء عرف الدواء.

سادساً: إن مصدر وسوستك وفقني الله وإياك، ما تجده من إملاءات، وأفعال وتصرفات لم تكن صادرة عن تشريع إلهي؛ فالله أرحم بك من تكليفك بما لا تطيق، وإنما هي من وحي الشيطان، والتي استَقْبَلَتها نفسُك الأمارة بالسوء، وربما صادف ذلك أماني باطلةٌ وخدع كاذبة، لا تعدو أن تكون من جنس خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والحشاشين، ولذلك كثيراً ما يُشغل الموسوِس ذمته بما لا حقيقة له، أو لا فائدة منه، في مقابل ارتكاب محرمات وتضييع واجبات، فتجده مثلاً يُشغل نفسه بحكم إزالة قذى الذباب عن ملابسه، دون مراعاةٍ لما أهدره من سرف في الماء، وتضييع لوقت الصلاة، وواقع الموسوسين خير شاهد.

سابعاً: إن من أعظم ما يعينك على الثبات على طريق الموسوسين الشاق هو: الفراغ والوحدة والكتمان ودعوى الاحتياط، وهما ضريبة الولوج في دوَّامة الوسوسة؛ فالفراغ سلاحٌ قاتل، تمكَّن به الشيطان من الدخول على بيت أفكارك، ولا يزال يغزل حبال التوتر والقلق والهلع في قلبك حتى يُشيد عرش الوسوسة فيه، وحتى يحافظ على عرش مملكته ألجأك إلى الوحدة، ولا يزال يُشعرِك بالخوف من معرة ما أنت فيه من حرب داخلية سبَّبت عندك التكتم، وتبريراً لتصرفات الموسوس الخارجة عن المألوف الشرعي، قد يجنح البعض إلى سلاح فقهي وهو الاحتياط، وبين الوسوسة والاحتياط بون شاسع؛ إذ الاحتياط يتمثل بالكف المطلق عن الوسوسة؛ والاحتياط استقصاء في اتباع السنة من غير غلو، بخلاف الوسوسة فهي اتباع أمر لم تدل عليه السنة ولم تأذن به، وهذا لون من تلبيس إبليس على الموسوسين.

ثامناً: اصدق في اللَّجأ إلى الله أن يدفع وساوس الشيطان عنك، بالاستعاذة والاعتصام به، والتضرع بين يديه، والإلحاح عليه، والاستشعار بأن هذا هو أعظم سلاح تستعمله، فقد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن ابتلي بشيء من ذلك: (فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله)، وليوقن أن الله تعالى سيذهب عنه رجز الشيطان، قال سفيان «رجز الشيطان: ‌الوسوسة»، ومَن أيقن أن الوسوسة من الشيطان حرم عليه متابعتها والاسترسال معها، واللِّياذ بالله من شرها.

تاسعاً: أن من أنفع العلاجات النبوية لهذا المرض ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولينته)، فالانتهاء عن الوساوس ليست كلمة تقال، ولكنها إعراض بالقلب، يلحقه يقين بأن الله أرحم به من نفسه ومن تلك الوساوس، وغلق لباب المناقشة فيه والتفكير، وانصراف عنه بالكلية؛ فلا تفعل شيء من أجل الوسواس، ولا تترك شيء من أجله، فإن وجدت من وساوس الشيطان مقاومة لمقاومتك فاعتبرها صادرة من شخص مجنون لا يمت إليك بصلة.   

عاشراً: إياك والتساهل في القضاء على بوادر الوسوسة مذ بدايتها، فمتى وجد الشيطان قبولاً لأطروحاته، هِنت عليه ومكنته من نفسك، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه، فقال لمن يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه مسلم، فإن كان هذا فيما يحتمل صدقه، فكيف بما كذبه فيه متيقناً، فاعرف هذا فإنه مفترق طرق بينك وبين الوسوسة.

حادي عشر: إياك والاغترار بما يُظهره الشيطان من حرصٍ على دينك، فما قامت وسوسته إلا بقصد إفساد الدين: قال تعالى: ((إن الشيطان لكم عدواً فاتخذوه عدواً))، ولجهل البعض بهذه الحقيقة ربما سعى لتتبع النصوص التي يَرُد فيها على شيطانه؛ لعله يقنع نفسه بفساد ما يقوم به، فإياك والانشغال بهذا الجانب؛ فالشيطان حريص على تنويع الأساليب المقنعة للوسوسة بما ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، والزم هدي المعصوم صلى الله عليه وسلم تفلح وتنجح، وبذلك تستجلب الشفاء من هذا الداء.

أسأل الله جل جلاله أن يَـمُنَّ على كل مبتلى بالعافية، ويُلبسهم الصحة والشفاء العاجل، ويرزقهم الأجر والمثوبة على الصبر والمجاهدة على الانتهاء من الوساوس والشكوك، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

                                                كتبه

                                                د. صلاح بن محمد موسى الخلاقي

                                              15/ 4/ 1443هــ 20/ 10/ 2021م